مدينة تتنصّت من الأبواب المواربة | شعر

لو كوربوزييه

 

سيرة

ثمّة دائمًا لحظةٌ نتوقّف فيها عن الانتظار

توقّفتُ أنا عند تلك الّتي صرتُ أرى فيها

آلافًا منكَ يهبّون من كلّ ركن

آلافًا يركضون نحوي ويلبّون جوعي

يقصّون سيرتكَ الّتي توقّفتُ عن تتبّعها

كنتَ لا أحد

كنتَ كلّهم

 

وكانت سيرتكَ تسري ليلًا وتدلّني إلى الشجرة

 

تسألني كيف اهتديتُ إلى الطريق

حسنٌ

لقد أكلتُ الشجرة كاملة

بأوراقها وأغصانها

وتَفِلْتُ نواها وراء ظهري

 

أكلتُ جنّتكَ. تخيّل موتكَ بلا آخرة

 

أنا شخصيًّا تخيّلتُه

يُبْعَثُ في كتلٍ من الدم واللحم

في ابني الّذي لم أنجبه بعدُ

في صبّارةٍ تحتمي بسور حديقتنا

في الريح ساعةَ تهزّ كيان القرية

تخيّلتُكَ خطّافًا في سمائها

تلمّ النوى

قبل أن يُسْمَعَ دويّه الساقط

من فمي المكلوم

 

 

موجاتٌ تحت صوتيّة

لو أنّ أحدهم وصف لنا النهاية منذ البداية

 

لكنّ هذا الجهل الفظيع هو ما يجعلنا نتأمّل وردةً

ونجد فيها شيئًا أكبر منها

 

هو ما يجعلنا نرى حين نقع في الحبّ

حقولًا، بتمامها مغطّاةً بالعشب

بينما إن مشينا فيها

سنرى الكثير من التراب

 

بُحَّ أجدادنا وهم يصرخون

بأصواتهم الّتي تشبه شفرةً تحت الجلد

يا أولاد! الحبّ فانٍ

فلا تمسكوا به من قميصه

إنّه حبّة مهدّئٍ سيختفي مفعولها عمّا قليل

أنتم مثل أغصانٍ ترتجف من الخوف

من شيءٍ تجهلونه

مجرّد تماثيلَ لا تهشّ ولا تنشّ

 

النجاة طُعْمٌ في صنّارة الخوف العملاقة

ألف صيّادٍ بانتظار أن تطلّوا برؤوسكم

ثمّ تصمتوا فاغري الأفواه

إلى الأبد

الشهب في السماء البعيدة

كانت من الممكن أن تسقط في حلوقكم

لولا أنّ الأرض تدور مصادفةً حول نفسها

 

صراخ أجدادنا يعلو

المواء يعلو

العواء يعلو

ويعلو صمتنا

 

 

أفرك رأس الحياة

نسيتُ كيف يُكْتَبُ الشِّعر

هل ستأتي الفكرة أم عليّ أن أدفع غرامةً

لأفكّ أسرها؟

 

بابي ترك نفسه مفتوحًا

وراح يتفرّج عليها

هذه الخسارات الّتي تزحف تحت بطنه

ستصلني وتميتني ميتةَ كلبة

 

لن يعثر عليّ أفراد عائلتي

فلقد حُفِرَتْ قبورهم منذ زمن

وسيقفزون فيها قبل أن يسمعوا حشرجة روحي

 

كنت أغسل جثّة جدّتي من الأخطاء

فانزلقتْ ولحقتْ بهم

وصارتِ الأخطاء صمغًا على جلدي

 

نسيتُ كيف على الكلمات أن تلحق بعضها

وراحت أفكاري تتوه في قيعان القبور

جنّيّةً برأسين

كلّ رأسٍ يلتفتُ إلى جهة

وأنا الجهة التاسعة

أناديها فيصطدم الوجهان ويموتان

 

رحمة الله عليك أيّتها الأفكار العجوز

 

 أيّهما أرحم، أن تصلبكِ جرّافةٌ إسرائيليّةٌ أم رائحة الهرم في سريرك؟

 

لن تعثر عليّ سيّارة الإسعاف

فقد جُنَّتْ بعد أن غرق اسم حيفا في بحرها

وقفز جبلها من قمّته

 

جيّد... هكذا لن يكتب الشعراء بَعْدُ عنهما

 

ما اسم هذه المدينة الّتي تتنصّتُ من الأبواب المواربة؟

كم كان سيكون ممتعًا لو شاركتُ في النميمة

عن شكل موتي

كنتُ سأضيف:

رماها الموت شرّ رمية

ماتت قبل أن تتذكّر كيف يُكْتَبُ الشِّعر

وكيف تتضاجع العصافير

وكيف توقّف قلب أبيها

وكيف تقصّ الحكمةُ أجنحةَ الأمل

 

لكنّ أسرابًا منه كانت تطير من فمها وأذنيها وثقوبها الحسّاسة

 

كانت تطير فوق الباب الصافن وسيّارات الإسعاف

ثمّ تنبطح تحت جرّافةٍ جائعة

 

بالمناسبة، أفكاري ماتت من الجوع

وستتذكّر في حياتها القادمة

في رأس شاعرةٍ شابّة

بأنّ الأخطاء ستلتصق بكفّيها إلى الأبد

ولن يزيلها ربٌّ أو شيطان

 

مَنْ مات من عائلته أحدٌ

فليدعوني إلى حفلة الصمغِ الصاخبة

بينما تموت المدينة في الخارج

يُقْفِلُ الباب نفسه

أفركُ رأس الحياة بالشامبو

أفركُ للمرّة الأخيرة

أفركُ

فيما هي

تنظر في عينيّ المطفأتين

 

 

قد يمرّ الطير

خبز الخوف لا يُمْضَغ

مرّ وقتٌ منذ تركه أحدهم على السور

 

لم يمرّ الطير

ولم يلن الخبز في فمي

 

لم أشفق على أحدٍ بكسرة

ولم يشفق عليّ أحدٌ بنصفها

 

فأنا منذ هجرتْني يدكَ

صارتْ يدي طيرًا ذبيحًا

يدمدم على السور

 


 

أسماء عزايزة

 

 

شاعرة وصحافيّة. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر". تكتب في عدد من المنابر العربيّة.